القرآنُ الكريمُ .. ووجوبُ ذِكْرِ الأنبياءِ والمُرسلين ! بحث فضيلة العلامة الشيخ محمود الجياشي

القرآنُ الكريمُ .. ووجوبُ ذِكْرِ الأنبياءِ والمُرسلين !
من الحقائق القرآنية التي قلّما يُلتفت إليها في بيان منزلة الأنبياء والمرسلين عليهم السلام ومكانتهم في المعرفة الإلهية ودورهم الجوهري في منظومة الدين وعلاقة الإنسان بالله سبحانه وتعالى .. هو ذلك الخطاب القرآني المكرّر والمركّز والموجّه مباشرة الى النبيّ الخاتم صلّى الله عليه وآله بوجوب ذِكْرِ الأنبياء والمرسلين وبيان أسمائهم وأحوالهم ومقاماتهم للناس وبهذه الصورة المثيرة التي شغلت مساحة كبيرة من معطيات ومضامين الرسالة الإلهية الخاتمة !
لنتأمّل جميعاً في هذه الآيات القرآنية ونركّز على فعل الأمر ( أذكرْ ) :
قال تعالى : (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ))
وقال : (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا ))
وقال : (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَكانَ رَسُولاً نَبِيًّا ))
وقال : (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا ))
وقال : (( … وَاذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ ))
وقال : (( وَاذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَعَذابٍ ))
وقال : (( وَاذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصارِ ))
وقال : (( وَاذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ ))
وقال : (( وَاذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ … ))
وقال : (( وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا )) .
وقال : (( ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا )) بمعنى : هذا ذكر رحمة ربّك لعبده زكريّا .
لاحظ معي هذا الأمر الإلهي المركّز والصريح ! ( أذكر .. أذكر .. أذكر … ) وهو من الواجبات والتكاليف الإلهية الرئيسية الموجّهة للنبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله !
فلماذا هذه الغفلة والتغييب شبه الكامل بيننا لسيرة ومواقف وحياة هؤلاء الأنبياء والمرسلين ؟!!
أليس لنا أسوة بالنبيّ في ذلك ؟! لماذا لانذكرهم أو نحيي ذكراهم بالصورة المناسبة لمكانتهم التي يرسمها القرآن الكريم ؟!!
تصوّروا أن النبيّ الأكرم بنفسه يقصّ أخبار الأنبياء ويتحدث مع الناس بتفاصيل حياتهم كما ينقل القرآن ذلك في( قصّة النبيّ يوسف ) مثلاً بتفاصيلها الاستثنائية والمثيرة ..ومن الملفت للنظر أن القرآن ينقل مشاهد دقيقة من حياتهم : أحاديثهم مع الله ومع أنفسهم ومع أقوامهم !! … مواقفهم النفسية والأخلاقية والإجتماعية … وحالاتهم في التوحيد والدعوة الى الله والعبادة والدعاء والصّبر والتوكّل والتقوى … وتحمّل البلاء ومواجهة قوى الشرّ والباطل والفساد والضلال .. بل حتّى مواقفهم الشخصية والعائلية وردود أفعالهم تجاه محيطهم الإجتماعي !
إنّ أحد أسباب ذلك هي درجة التوحيد التي كانوا عليها .. وأن وجودهم المبارك بجميع مستوياته هو وجود إلهي يسمو بصبغة الله .. ومن أحسن من الله صبغة !!؟ فيكون ذكرهم ذكراً لله سبحانه .. لأنهم تجلّيات للأسماء الإلهية .. وبهم عُرف الله .. وكل تفاصيل حياتهم عبارة عن موعظة وعبرة ومعرفة بالله سبحانه .. وهم الأسوات والقدوات في صراط التكامل نحو الله سبحانه .. وقادة مسيرة الإصلاح الإلهية الكبرى .
ويطيب لي أن أشير الى حقيقة قرآنية أخرى تعتبر أحدى ثمار هذا الموضوع .. وهي أن كلّ شيء يذكّر بالله سبحانه وتعالى سيكون ذكره ذكراً لله .. خذ مثلاً قوله تعالى مخاطباً النبيّ موسى عليه السلام :
(( وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ … )) .
نعم ! ذكّرهم بأيام الله .. لأن هذه الأيام إذا ذكروها سيذكرون الله !
إذن .. فلنذكر أيّام الله .. وأنبياء الله .. ورسل الله .. وأولياء الله .. وأحبّاء الله .. لكي يذكرنا الله أيضاً كما قال :
(( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ … ))
في ضوء ذلك ومن موقعي كطالب علم في الحوزة العلمية أقترح أن تكون الفترة من يوم وفاة النبيّ الأكرم صلّى الله عليه وآله الثامن والعشرين من شهر صفر وحتى يوم ولادته المباركة في السابع عشر من ربيع الأول .. فترة خاصّة بالأنبياء والمرسلين يتصدّى فيها العلماء والكتّاب والمفكّرون والخطباء لذكر سفراء الله الى خلقه وأمناء الله على وحيه وهم أنبياء الله ورسله .. وإحياء ذكراهم .. والتركيز على بيان حياتهم ومواقفهم وعلومهم ومقامهم ومكانتهم في المعرفة الدينية .. وأنهم هم معلموا الإنسانية الأوائل …
وعلى أيديهم ومناهجهم المباركة ورسالاتهم الإلهية السمحاء وتضحياتهم العظيمة تلقّت الإنسانية أعظم الدروس في التوحيد والمعرفة الإلهية والتربية والتكامل الروحي والأخلاقي والإجتماعي والخروج من الظلمات الى النور .
إنّ القرآن الكريم يسمّي قصص الأنبياء والمرسلين ب ( أحسن القصص ) وأن فيها ( عبرة لإولي الألباب ) وأنها ( تثبّت فؤاد النبيّ ) .. وفي هذا المقال نحاول أن نعرف لماذا كانت ( أحسن ) ؟ ومامدى تأثير ذلك على حياتنا الدينية ومعرفتنا بالله عزّوجلّ وقربنا منه سبحانه وتعالى ؟
إنّ حقيقة سِيَر وأحوال الأنبياء في المنظور القرآني ليست إلاّ دورات متكاملة في التوحيد والعبودية والعبادة التي يسير بها الإنسان الى ساحة القرب والزلفى عند الله عزّوجلّ والتوجّه نحو ملكوت السماوات والأرض وآيات الله الكبرى …
ولاشكّ أنّ من أعظم غايات الإسلام والرسالات السماوية جميعاً هو وصول الإنسان الى مرتبة توحيد الله تبارك وتعالى على مستوى الإعتقاد والعمل جميعاً .. أي أن يعتقد أنّ له إلهاً واحداً هو الذي بدأ منه كلّ شيء وإليه يعود كل شيء .. له الأسماء الحسنى والأمثال العليا .. وهو الأوّل والآخر والظاهر والباطن .. ثم تكون حياته وأعماله ومعيشته تحاكي عبوديته لله سبحانه وتوحيده .. أي تكون أعماله ترجماناً أميناً لتلك المعتقدات التي إنطوى عليها قلبه .. وبذلك يسري التوحيد في ظاهره وباطنه وتتجلّى العبودية في أقواله وأفعاله وسائر جهات وجوده .
إن معنى سراية التوحيد في أعمال الإنسان هو أن تكون صور أعمال الإنسان الظاهرية ممثلة للتوحيد وحاكية عنه .. بعبارة أخرى : لو فرضنا أن التوحيد له صورة لكان هو تلك الأعمال بعينها ! ولو أنّ تلك الأعمال تجرّدت إعتقاداً محضاً لكانت هي التوحيد بعينه ! ويمكن تقريب هذه الفكرة أيضاً من خلال الحديث القدسي الذي يقول :
وَمَا يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ عَبْدٌ مِنْ عِبَادِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا إفترضت عَلَيْهِ، وَإِنَّهُ لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنافلة حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ إِذاً سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بها .
أي أن الإنسان العابد في هذه المرتبة يكون الله سمعه ولسانه وبصره.. بل جميع جهات وجوده تكون إلهية ..
ومن الأمثلة القرآنية الرائعة التي تصوّر هذه المرتبة السامية من التوحيد هو قوله تعالى :
(( … وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ )) ..
إذ من المعلوم أنّ الذي رمى الحجر نحو الكفّار هو رسول الله صلّى الله عليه وآله .. لكن القرآن يقول : إنّ الرامي في الحقيقة هو الله سبحانه !! وهذه مرتبة عالية جدّاً في الفناء الإلهي لايمكن أن تحيط بها الألفاظ وتعطيها معناها المناسب .. وهذا هو معنى سراية التوحيد في وجود الإنسان .. فالأنبياء والمرسلون هم ( توحيد ) يمشي على الأرض ..لكن مع إختلاف الدرجات والمراتب .. وكلّ بحسبه .. ولذلك فإن الذي يطيعهم يطيع الله .. والذي يعصيهم يعصي الله سبحانه .. والذي يحبّهم يحبّ الله .. والذي يبغضهم يبغض الله .. والذي يذكرهم يذكر الله !
وسراية الإعتقاد في أجزاء العمل الظاهري للإنسان له تطبيقات وأمثلة مشهودة حتى في حياتنا الدنيوية .. فلا يخفى أن أعمال وتصرفات الإنسان المتكبّر مثلاً تمثّل مافي نفسه من صفة الكبر والخيلاء! وتصرفات البخيل تمثّل مافي نفسه من صفة الحرص ! وهكذا الصفات الحسنة كالشجاعة والكرم والأمانة .
وبالعودة الى حياة الأنبياء والمرسلين .. فإنّ الأدب الإلهي أو أدب النبوّة هو مانسمّيه ( هيئة التوحيد في الفعل ) .. أي أن جميع أعمال الأنبياء ومواقفهم الخارجية هي تجلّيات للتوحيد الإلهي .. ومن هنا قلنا أن حياتهم سلام الله عليهم عبارة عن دورات مختلفة في العبودية والتوحيد والمعرفة الإلهية .. ولذلك أوكلت إليهم مهمّة ( تربية البشرية وتعليمها ) و ( تكامل الخلقة الإنسانية ) و ( ولاية مسيرة البشرية وإخراجها من الظلمات الى النور ) لأنهم يمثّلون المستوى الأعلى والأداء الرفيع للأدب الإلهي الذي تجلّى في حياتهم المباركة .. ولابدّ أن ندرك أن قصّة كل نبيّ وحياته في عالمنا هي درس عملي في التوحيد والقرب الإلهي .. فهناك درس ( التوحيد الإبراهيمي ) .. ودرس ( التوحيد الإسماعيلي ).. ودرس ( التوحيد النوحي ) .. ودرس ( التوحيد الموسوي ) .. ودرس ( التوحيد العيسوي ) .. ودرس ( التوحيد اليوسفي ) .. ودرس ( التوحيد اليونسي ) .. ودرس ( التوحيد الهودي ) .. وغيرهم من الأنبياء .. وفي قمّتها( التوحيد المحمّدي ) الذي خُتمت به كل دروس التوحيد والرسالات الإلهية الى يوم القيامة !
وعلى أساس هذه الدورات المتكاملة من السّير التكاملي نحو الحقّ سبحانه ينبغي للإنسان الذي يروم سلوك السبيل الذي يضعه في ساحة القدس والتوحيد وفناء الحبّ الإلهي أن يتأمل في هذه القصص ويتلّبث طويلاً عند كل مشهد من مشاهدها العميقة ليأخذ العبرة ويفهم الدرس الذي يخطو به في الإتجاه الصحيح بقدم راسخة .. ومعرفة عالية .. وقلب متيّم .. ونفس مطمئنة .
قال تعالى : (( أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا ))
إنّ هذه الآية الكريمة تبيّن نوعاً من الأدب العام الذي إتّصف به الأنبياء عليهم السلام .. وهو أن حياتهم مبنية على الخضوع عملاً وعلى الخشوع قلباً لله عزّوجلّ .. فمن المؤكد أن سجودهم عند ذكر آيات الله تعالى هو مثال للخضوع .. ومن جهة أخرى فإنّ بكاءهم – وهو الحاصل من رقّة القلب وتذلل النفس – هو آية الخشوع .. وهاتان الحالتان – الخضوع والخشوع – تمثّلان كناية عن صفة أخرى تملأ نفوس الأنبياء وهي العبودية .. بحيث كلّما ذكّروا بآية من آيات الله بانَ أثرها في ظاهرهم بالقدر الذي ملئت به باطنهم .. فهم ثابتون على هذا الأدب الإلهي في جميع شؤون حياتهم .. أي أنّ حياتهم عبارة عن ( سجدة مستمرة ) !
وعندما نتحدث عن الأنبياء إنما نتحدث عن التوحيد بكل ماتعنيه هذه الكلمة من معنى .. وعندما يأمرنا الله سبحانه بذكرهم والتأسّي بهم لابدّ أن نعلم أنّ ذلك نوع من التربية الإلهية الحقّة .
في ضوء ذلك لابدّ من قراءة مفصّلة معرفياً وسلوكياً وتوحيدياً وأخلاقياً لقصص الأنبياء والمرسلين بعيداً عن السرد التاريخي والمنحى القصصي الأدبي .. ومن المؤكد أن تلك القصص ستكون عبارة عن ( مناجم ) هائلة لأعظم دروس ومعارف التوحيد والحبّ والفناء والتكامل الوجودي والقرب من الله عزّ أسمه .. الى درجة أن الله سبحانه يأمر نبيّه الخاتم صلّى الله عليه وآله بالإقتداء بهدى هؤلاء الأنبياء والمرسلين .
قال تعالى : (( أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ ، أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ … )) .
فهذه هي( قصص الله ) مع أحبّائه وأنبيائه ورسله .. وليكتب كلّ منّا ( قصّة حياته ) وعلاقته بالله سبحانه مع ( أحسن القصص ) ولنكن من أولي الألباب الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه .
(( ماكانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدىً وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ )) .